فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {جئناك بالحق} مقابل قوله: {لا يأتونك بمثل} وهو مجيء مجازي.
ومقابلة {جئناك بالحق} لقوله: {ولا يأتونك بمثل} إشارة إلى أن ما يأتون به باطل.
مثال ذلك أن قولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]، أبطله قوله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: 20].
والتعبير في جانب ما يؤيده الله من الحُجة ب {جِئْنَاك} دون: أتيناك، كما عُبر عمّا يجيئون به ب {يأتونك} إما لمجرد التفنن، وإما لأن فعل الإتيان إذا استعمل مجازًا كثر فيما يسوء وما يُكره، كالوعيد والهجاء، قال شقيق بن شَريك الأسدي:
أتاني من أبي أنس وعيدٌ ** فَسُلّ لِغيظَةِ الضَّحَّاك جسمي

وقول النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لُمتَني

وقوله:
فليأتينك قصائد وليَدفعن ** جيشًا إليك قوادمُ الأكوار

يريد قصائد الهجاء.
وقول الملائكة لِلُوط {وآتيناك بالحق} [الحجر: 64] أي عذاب قومه، ولذلك قالوا له في المجيء الحقيقي {بل جئناك بما كانوا فيه يمترون} وتقدم في سورة الحجر (63)، وقال الله تعالى: {أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا} [يونس: 24] {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2]، بخلاف فعل المجيء إذا استعمل في مجازه فأكثر ما يستعمل في وصول الخير والوعد والنصر والشيء العظيم، قال تعالى: {قد جاءكم بُرهان من ربكم} [النساء: 174] {وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا} [الفجر: 22] {إذا جاء نصر الله} [النصر: 1]، وفي حديث الإسراء: «مرحَبًا به ونعم المجيء جاء» {وقل جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81]، وقد يكون متعلق الفعل ذا وجهين باختلاف الاعتبار فيطلق كلا الفعلين نحو {حتى إذا جاء أمرنا وفَار التنور} [هود: 40]، فإن الأمر هنا منظور فيه إلى كونه تأييدًا نافعًا لنوح.
والتفسير: البيان والكشف عن المعنى، وقد تقدم ما يتعلق به مفصَّلًا في المقدمة الأولى من مقدمات هذا الكتاب، والمراد هنا كشف الحجة والدليل.
ومعنى كونه {أحسَن}، أنه أحق في الاستدلال، فالتفضيل للمبالغة إذ ليس في حجتهم حُسن أو يراد بالحسن ما يبدو من بَهرجة سفسطتهم وشبههم فيجيء الكشف عن الحق أحسن وقعًا في نفوس السامعين من مغالطاتهم، فيكون التفضيل بهذا الوجه على حقيقته، فهذه نكتة من دقائق الاستعمال ودقائق التنزيل.
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}.
استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ولوعيد المشركين وذمهم.
والموصول واقعٌ موقع الضمير كأنه قيل: هُم يحشرون على وجوههم، فيكون الضمير عائدًا إلى الذين كفروا من قوله: {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] إظهارًا في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبتَ لهم مضمون الصلة، وليبنى على الصلة موقع اسم الإشارة، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال: ولا يأتونك بِمَثَل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا، هُم شرّ مكانًا وأضل سبيلًا، ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم، كما قال في سورة الإسراء (97) {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} عقب قوله: {وما منَع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ أن قالوا أبعَث اللَّه بشرًا رسولًا} [الإسراء: 94] ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيبًا للنبيء صلى الله عليه وسلم وإذ كان قصدهم مما يأتون به من الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلاللِ السبيل دون النبي صلى الله عليه وسلم فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه.
وقد تقدم معنى {يحشرون على وجوههم} في سورة الإسراء (97) عند قوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} وتقدم ذكر الحديث في السُّؤَال عن كيفَ يمشون على وجوههم.
وشّر: اسم تفضيل وأصله أشرّ وصيغتا التفضيل في قوله: {شَرّ} و{أضلّ} مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله: {قال أنتم شَرّ مكانًا} [يوسف: 77] في جواب قول إخوة يوسف {إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف: 77].
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم.
وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين: هم شر الخلق، فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب، أي هم شر مكانًا وأضل سبيلًا لا المسلمون، وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين.
والمكان: المقَر.
والسبيل: الطريق، مكانهم جهنم، وطريقهم الطريق الموصل إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم.
والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرِياء بالمكان الأشرّ والسبيل الأضل، لأجل ما سَبق من أحوالهم التي منها قولهم {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32].
و{سبيلًا} تمييز محوَّل عن الفاعل، فأصله: وضل سبيلُهم.
وإسناد الضلال إلى السبيل في التركيب المحول عنه مجازٌ عقلي لأن السبيل سبب ضلالهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.
تقدمت الآيات التي بمعناه في آخر سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} [الإسراء: 106] الآية، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي كذلك الإنزال مفرقًا بحسب الوقائع أنزلناه لا جملة كما اقترحوا، وقوله: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَك} أي أنزلناه مفرقًا، لنثبت فؤادك بإنزاله مفرقًا.
قال بعضهم: معناه لنقوي بتفريقه على حفظه، لأن حفظه شيئًا فشيئًا أسهل من حفظه مرة واحدة، لو نزل جملة واحدة.
وقال بعضهم: ومما يؤكد ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه أمي لا يقرأ ولا يكتب.
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم القيامة، وأنهم شر مكانًا، وأضل سبيلًا. وبين في مواضع أخر أنهم تكب وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها، كقوله تعالى: {وَمَن جَاءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] الآية، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} [الأحزاب: 66] الآية وقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] وبين جل وعلا في سورة بني إسرائيل أنهم يحشرون على وجوههم، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عميًا وبكمًا وصمًا، وذكر في سورة طه أن الكافر يحشر أعمى. قال في سورة بني إسرائيل: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] وقال في سورة طه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124126] الآية.
وقد بينا وجه الجمع بين آية بني إسرائيل وآية طه المذكورتين مع الآيات الدالة على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويتكلمون ويسمعون كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وقوله تعالى: {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] وكذلك بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على آية بني إسرائيل المذكورة.
وصيغة التفضيل في قوله: {أولئك شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} قد قدمنا الكلام في مثلها في الكلام على قوله: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} [الفرقان: 15] والمكان محل الكينونة. والظاهر أنه يكون حسيًا، ومعنويًا. فالحسي ظاهر، والمعنوي كقوله تعالى: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} [يوسف: 77] الآية، والسبيل الطريق وتذكر وتؤنث كما تقدم، ومن تذكير السبيل قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] ومن تأنيثها قوله تعالى: {قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] الآية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.
هذا أيضًا أحد الأمور التي يتعلقون بها كي لا يؤمنوا، وكيف يطلبون أن ينزل القرآن جملةً واحدة، وهم لا يطيقون منه آية واحدة؟ لكنه الجدل والسفسطة والإفلاس في الحجة، فاعتراضهم على نزول القرآن مُنَجّمًا.
إذن: لا غضاضة عندهم في القرآن، وعَيْبه في نظرهم أنه نزل على محمد بالذات، وأنه ينزل مُنجّمًا لا جملة واحدة، وكان طاقة الإيمان عندهم تناسب نزول القرآن جملة واحدة!!
ثم يقول سبحانه: {كَذَلِكَ} [الفرقان: 32] يعني: أنزلناه كذلك مُنجّمًا حَسْب الأحوال، والحكمة من ذلك {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] لأنك ستتعرض على مدى ثلاث وعشرين سنة لمواقف تزلزل، فكلما تعرضْتَ لموقف من هذه المواقف نزل القرآن تسليةً لك وتثبيتًا وَصِلةً بالسماء لا تنقطع. ولو نزل القرآن مرة واحدة لكان التثبيت مرة واحدة، ثم تأتي بقية الأحداث بدون تثبيت، ولا شكَّ أن الصلة بالسماء تُقوِّي المنهج وتُقوِّي الإيمان.
كما أن القرآن لو نزل مرة واحدة، كيف يتسنى لهم أنْ يسألوا عما سألوا عنه مما حكاه القرآن: يسألونك عن كذا، يسألونك عن كذا.. إلخ. إذن: نزوله مُنجّمًا اقتضاء لحكمة الحق سبحانه ليُعدِّدَ مواقف تثبيتك، لتعدد مواقف الإيذاء لك.
ومعنى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] أي: أنزلناه مُنجمًّا حَسْب الأحوال، فكلما نزل نجم تمكنتم من حِفْظه وتكراره في الصلاة.
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}.
المَثَل مثل قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] أو قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] والمثل: الأشياء العجيبة التي طلبوها.
ولو أجابهم الله لما قالوا لأنكروا قولهم وتنصّلوا منه، كما قال تعالى عن اليهود: {سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ومع ذلك قالوا ما حكاه القرآن عنهم. أمَا كان فيهم رجل يتنبه لقوْل القرآن، فيحذرهم من هذا القول ليُوقِع رسول الله في حرج، ويُظهر القرآن على أنه كذب، ويقول كلامًا يخالف الحقيقة، وعندها، لهم أنْ يقولوا: لقد قال القرآن كذا وكذا ولم يحدث منا هذا؟
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}.
{الذين} [الفرقان: 34] إجمال الأشخاص معروفين بذواتهم، وقفوا من الرسول موقف العداء، ومنهم مَنْ سبق أن قال: {ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلًا ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا} [الفرقان: 2728].